قصة

نزار ب. الزين*

بمناسبة الذكرى الستين للنكبة

دعا قائد ال( ها غانا ) في مدينة حيفا عددا كبيرا من الضباط البريطانيين ، إلى حفل تكريمي ساهر في كازينو(بيت غالين) على سفح  جبل الكرمل ، حيث أحيطوا بمظاهر الحفاوة بشكل لم يسبق له مثيل .

  كانت النساء و الفتيات اللواتي ارتدين أثواب السهرة الزاحفة عند القدمين و الكاشفة لظهورهن و معظم نحورهن ، يتنافسن في خطب ود الضباط الضيوف ، بينما أبدى هؤلاء بدورهم من اللطف و البشاشة ما  أشاع الدفء في جو الحفل .

و كان الميجر ( سمِث ) المسؤول عن مخلفات الجيوش البريطانية ، قد فرغ لتوه من أداء رقصة ( السلو فالس ) التي يعشقها  الإنكليز ، مع زوجة أحد زملائه الضباط ، فما أن أوصلها إلى مقعدها مقدما لها شكره ، حتى دار على عقبيه متجها نحو المائدة المفتوحة ، الحاوية على ما لذ و طاب ، فتناول  كاسا جديدة من ( الويسكي ) دفعة واحدة ، ثم توجه إلى غرفة التدخين ، فقد أحس بحاجته الشديدة إلى الراحة و بعض ( النيكوتين ).

*****

و بينما كان يشعل ( سيغاره الهافانا ) الذي كان قدمه إليه أحد كبار ضباط ال( ها غانا )  ، إذا بيدين ناعمتين تعبث بشعره ، ثم تتلمس جبهته ، و إذ هم بالإلتفات ليرى صاحبة هتين اليدين الرقيقتين ، أغمضت صاحبتهما له عينيه برفق ، و بنغمة حالمة انسابت من شفتيها  و كأنها نغمة ناي راعٍ  من ويلز : ” خمِّن من أنا ” قالت له ، و لكنه لم يقوَ على الصبر ، فأمسك باليدين و أزاحهما عن عينيه برفق ، ثم قبل اليد اليسرى و تبعها باليمنى ، و هو  يجيبها بما يشبه الهمس : ” راشيل .. أيتها العزيزة .. يا لسعادتي بوجودك هنا ” .

جلست راشيل إلى جواره ، دون أن تحاول الإفلات من قبضة كفيه العريضتين ، سألته مستغربة : ” لِمَ أنت مسترخِ ، هكذا ؟ هل تشعر بتعب ؟ ” ؛  “بعض التعب ، فقد أنهكني الرقص .. و بيني و بينك ، فقد أدار ( الوسكي *) رأسي قليلا ” ، أجابها و هو  يضحك .

أمالت رأسها نحوه و قد كادت تلتصق به ، و بغنج و دلال قالت له : ” أنت راقص بارع يا سمث ، الرقصة التالية لي ، أليس كذلك ؟ ” فأجابها و قد افتر ثغره عن ابتسامة عريضة : ” التالية و ما بعد التالية و حتى آخر السهرة ، يا عزيزتي ” .

*****

كانا قد ابتدءا الرقص عندما سألته :

–      هل أعجبتك الحفلة يا ( سمث ) ؟ لقد أشرفت شخصيا على إعدادها !

= إنني في أوج السعادة يا راشيل ، إنها ليلة من ليالي العمر ، سأحمل ذكراها حتى آخر العمر .

كانت يده الأخرى قد التفت حول كتفها و أخذت اصابعه تعبث بشعرها الأسود المسترسل ، ثم تسللت إلى أذنها  تداعبها برقة ، فسألته و هي مغمضة العينين :

–      ترى هل سأكون ضمن محتويات ذكرياتك الجميلة ، يوم تعود إلى الوطن ؟

لم يجبها بلسانه ، بل اخذت شفتاه تهمس إلى شفتيها بصمت ، بكل  ما  يكنه  لها  من عاطفة  مشبوبة ، أوقد  لظاها  شذى عطر الياسمين الذي تمضخت  به  ، ثم أضاف بصوت أرعشه الإنفعال :

= لكم أتمنى البقاء إلى جوارك إلى الأبد ..

فأجابته بحماسة :

–      عندما تكون لنا إسرائيلنا  ، سأهرع إليك في ( ليفربول ) و لو سباحة .

فأجابها واثقا من كل كلمة :

= ستنتصرون ، و ستكون لكم إسرائيلكم ، و لسوف أبقى في انتظارك على رصيف الميناء .

– إني متشائمة يا ( سمث ) ، الجيوش العربية كما يبدو ، مصممة  على القضاء علينا ، و تستعد  لاختراق  الحدود  حال رحيلكم .

فابتسم ( سمث ) و أجابها  مؤكدا و جازما :

= العرب متخلفون و ضعفاء يا راشيل ، و لولا معرفة قادتكم بهذه الحقيقة ، لما صمموا على تحديهم .

–      و لكنها جيوش سبعة !!!

= لا قيمة لها عمليا ، تأكدي مما أقول  ، فبعضها وليد ، و بعضها لا زال يحبو ، و بعضها الآخر بإمرة ضباط بريطانيين  ،

و نحن أصحاب الوعد الذين عملنا على تنفيذه بكل إخلاص ، طوال ربع القرن الماضي ، بكل الوسائل ما خفي منها و ما علم ؛ أتشكين  بذلك يا راشيل ؟

صمت قليلا و سحب رشفة سيغاره ، ثم أضاف :

= العرب جميعا متنافسون ، متناحرون ، فوضويون ؛ و سوف يسهلون لكم الأمور بأيديهم من حيث لا يدرون ، و لسوف تلمسين بنفسك صدق ما أقول ..

ثم أضاف مازحا :

= و لكن لِمَ تقحمين رأسك الشفافة بالسياسة و قذاراتها  يا راشيل ؟

–      أنسيت من أنا يا ( سمث ) ؟

= ليس هذا ما عنيت ، ما عنيته ، أنك خلقت للحب و الغزل ، أنت حمامة سلام و ملاك رحمة ، و السياسة لا تتناسب مع هذه الصفات ..

–      ما هذا الذي أسمع ؟ أنت اليوم شاعر  ، ترى هل بالغت بشرب الكحول ؟

فضحكا  معا ، و تبادلا قبلة حارة جديدة ..

*****

و فجأة ابتعدت عنه قليلا  ، ثم سألته و قد بدا على محياها بعض الإستياء :

– و لكن كيف تتركوننا  و نحن في هذه الحالة من الخطر الذي يتهددنا من كل صوب ؟

أجابها بكل ثقة :

= إننا سنترككم أقوياء يا راشيل ، هيأنا لكم كافة أسباب الدولة ، و ستعلمين الحقائق في وقتها .

–      و لكن ، لطالما شكا والدي من حيادكم مؤخرا .

= الليوتونانت كولونيل والدك ، أكثر الناس معرفة بما قدمناه لكم في الماضي و الحاضر – و خاصة الحاضر – و هو يعلم أيضا بما تعرضت له بريطانيا من ضغوط لأجلكم  ، و يعلم أن هناك تحالفات و معاهدات  تربطنا بمعظم العرب ، و مع ذلك عملنا ما بوسعنا  للتوفيق بين مصالحنا القومية و مصالحكم المشروعة  ، و هو يعلم أيضا أن هناك هيئة أمم متحدة ، بريطانيا واحدة من مؤسسيها  ، أي أن أولى واجباتنا الأدبية احترام مقرراتها  ، و هو يعلم أيضا و أيضا ، أننا عندما نعجز أحيانا  من مساعدتكم  علانية تحت ضغوط الظروف الدولية ، فإننا لا نتوانى عن فعل ذلك سرا ؛ و سيعترف لك ذات يوم ، أن إسرائيل صناعة بريطانية بنسبة 70% على أقل تقدير .

و أضاف و قد انتصب بقامته و انتفخت أوداجه زهوا :

= و اليوم سأضرب لك مثلا حيا ، يشهد عمليا على ما أقول ، إكراما لهتين الشفتين المعسلتين …

–      شوقتني يا ( سمث ) ،  قالت له منفعلة .

= تعالي معي نبحث عن والدك ، و ستكون المفاجأة رائعة .

فاقتربت منه تزفه القبل ، و هي تقول :

–      ليس لي صبر يا أعز الناس ، قل لي حالا …

= بل تعالي معي .

و جرها من يدها  و مضى بها بين الردهات ، و هما يتضاحكان ، إلى أن عثرا على والدها ، فنادته راشيل  بإشارة منها ، فترك صحبه مستأذنا ، و تبعهما إلى إحدى شرفات الكازينو .

و بادر الميجر (سمث) محدثه بشيء من التعاظم :

= سيدي الليوتونانت كولونيل ، أريد تقديم هدية صغيرة إلى إسرائيل الموعودة قبل رحيلي ..

فابتسم مردخاي و التمعت عينا راشيل ، و تركاه يكمل حديثه و هما في أقصى حالات اللهفة .

= سيغادر حيفا صباح الغد قطار محمل بالأسلحة و الذخائر ، اشتراها  العرب من مخلفات الجيش البريطاني ، و سيتم تسليمها في نقطة قريبة من بلدة جنين ؛ فتصرفوا …

أجابه مردخاي بلهجة ممتنة و قد شد بيديه الإثنتين على كتفي ( سمث ) بحرارة :

–      إنني عاجز  عن الشكر يا ميجر ( سمث ) ، إن هذا الجميل لا يمكن أن ننساه ، و لكن يحضرني سؤال هام : ” هل القطار مسلح ؟ ” أجابه سمث : ” بالتأكيد و لكنني ، سأوصي الحراس بعدم المقاومة ، حالما تعطونهم كلمة السر” .

 و لم تستطع راشيل الصبر حتى ابتعاد والدها ، فألقت بنفسها بين ذراعي ( سمث ) قائلة بلهفة محمومة :

– سمث ، أيها الحبيب الغالي ، تعال نخرج من هنا ، خذني إلى بيتك ، خذني إلى أي مكان ، أو خذني حالا ..

*****

بينما كانت راشيل تتناول فطورها  مع سمث في شرفة منزله ، كان جنود ال(الها غانا )  من مستوطنة ( بنيامينا )  ، ينقلون آخر صندوق  مليء بذخيرة الرشاشات ، من حمولة القطار البالغة عشرين طنا  ، من بينها عشرة مدافع ( هاون ) ثقيلة !

     ============================
*نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب