شهد رعنان أفدح كارثة تحل بقومه خلال إحدى أنجح عمليات جيش الإنقاذ العربي ؛ مما خلف في نفسه شعورا بالذنب لوقوفه تجاهها موقف العاجز ، فقد انهمرت القنابل على حي ميشاروم فزرعت الدمار في أرجائه و دفعت بسكانه إلى الهجرة الجماعية نحو غربي أورشليم دون أن يتمكن من إيقافها .
و في إجتماع ضم قادة الأرغن زفاي لئومي و الشتيرن ، عرض رعنان فكرة إنتقام تعتق أرشليم من الحصار المفروض عليها و تفرِّغ المنطقة كلها من الفاسطينيين .
صاح رعنان في وجه معارضيه :
– يجب أن نستثمر سقوط القسطل ، يجب أن ننتقم لأهالي ميشاروم ، لدينا أسلحة حديثة و ذخائر بعد أن يسَّر البريطانيون لنا نهبها من مستودعاتهم ، فماذا ننتظر؟
أجابه يهوشَع بهدوء :
– القرية التي تتكلم عنها ساقطة عسكريا ، مكالمة مع المختار ، تجعلهم يهجرونها دون إراقة قطرة دم .
رد عليه رعنان و قد شبت فيه نيران الغضب :
– الدم …. الدم …الدم ، و ماذا عن الدم اليهودي الذي يراق في كل مكان كل يوم ، ماذا عن مذابح و محارق الهولوكست ، و ماذا عن والدي و أخي اللذان اقتادهما النازيون و لم أرهما منذئذ ؟ ماذا عن ثلاثة آلاف سنة من الشتات ؟
أجابه موشي مهدئا :
– أهلك و أهلي جرت تصفيتهم هناك ، أما هنا فليس أكثر من قرية ساقطة عمليا ، إنها محاطة من جميع الأطراف بمستوطناتنا ، و لا داع لإهدار رصاصة واحدة فيها .
فرد رعنان دون أن تخبو حماسته :
– نحن بحاجة إلى دمائهم ، تجعل الرعب يدب في قلوبهم و قلوب بني جلدتهم ، فيرحلون عن أرض الأجداد ؛ هذا ما نريده ..
– و ماذا عن اتفاقية عدم الإعتداء التي تربطنا بهم ؟ تساءل يهوشع فرد عليه رعنان متهكما :
– لا تساوي ثمن الورق الذي كتبت عليه .
– و البريطانيون ؟
– سيحتجون بداية – كعادتهم – ثم يصمتون !
– و ماذا عن الدول العرببة المحيطة بنا من كل صوب ؟
– كل زعمائهم بلا استثناء أحجار شطرنج بيد الإنكليز و الإنكليز في صفنا من الباطن .
هنا تساءل هتسل :
– و ما هو موقف الهاغانا
– معنا طبعا ، على أن يبقى الأمر سرا ، فهي الوجه العسكري للوكالة اليهودية كما تعرفون .
و انتهى الإجتماع بالموافقة على الخطة و طلب من رعنان أن ينفذها بقيادته .
*****
في عصر ذلك اليوم اتصل يهوشع هاتفيا بمختار قرية دير ياسين و دار بينهما الحوار التالي :
– كيف حالك يا مختار ؟
– نحمد الذي لا يحمد على مكروه سواه
– أفهم من رنة صوتك أن سقوط القسطل بلغ مسامعك
– بلغني
– و مقتل عبد القادر ؟
– أجل ، بلغني إستشهاد عبد القادر الحسيني ، تغمده الله بواسع رحمته .
– أمر محزن أن يموت الناس هكذا بلا مبرر .
– الله يصلح الحال .
– القتلى يتزايدون يوما بعد يوم يا مختار .
– قافلة الشهداء لا نهاية لها ، و لكن هل من أمر خاص ؟ أم إنها مجرد شماتة ؟
– شماتة ؟ أبدا أبدا يا مختار؛ نحن آدميون قبل كل شيء ، و لكن الأخوان في المنطقة يودون التأكد من سلامة اتفاقيتنا .
– طمِّنهم ، من طرفنا لا زلنا على العهد طالما أنتم باقون عليه .
– شالوم.
– شالوم عليكم و رحمة الله.
*****
كان عدد من وجهاء القرية في مضافة المختار ، يصغون إلى المذياع الوحيد فيها ، عندما ابتدرهم قائلا :
– يا إخوان ، أنا لست مطمئنا إلى هذه المكالمة ، قلبي يحدثني أن وراءها ما و راءها !
ثم أخذ الرجال يناقشون وساوس المختار ، إلى أن قرروا في النهاية أنها أوهام لا تستند إلى أي منطق و على الأخص بوجود اتفاقية عدم الإعتداء التي لم يجف حبرها بعد .
*****
و لكن …..
قبيل ظهور شمس اليوم التالي ، سقطت القنبلة الأولى في ساحة القرية ، إلا أن القنبلة الثانية سقطت فوق منزل اسماعيل ، كان أفراد العائلة جميعا في الحقل خارج القرية ، ذهبوا لتعشيب الزرع و تنظيفه من النباتات الطفيلية ، عدا أم اسماعيل العجوز التي خنقتها الأنقاض .
و كان آخرون قريبون من عائلة اسماعيل ، في طريقهم أيضا إلى الحقول ، جمدهم الدوي ، و لكن عندما سقطت القنبلة الثالثة على بعد أمتار منهم، فأصابت شظاياها بعضهم ، عادوا إلى القرية مهرولين يحملون أو يجرون جرحاهم .
ذُعر المختار ، فخرج إلى الزقاق يستطلع ،
الأهلون يندفعون نحو منزل إسماعيل ..
قائد المليشيا أبو حسن ، يهيب بهم أن يعودوا إلى منازلهم و أن يحموا أطفالهم ، فما سقط من القنابل الثلاث إن هي إلا اختبار لدقة التصويب .
أدرك المختار معنى ما قاله أبو حسن ، فاندفع إلى منزله ثم تناول الهاتف طالبا ( جبعات شاؤول ) ، و لكن اسلاك الهاتف كانت قد قطعت منذ الليل.
مضافة المختار امتلأت الآن بالرجال من كل الأعمار ، لقد اتخذوا قرارهم بالمقاومة حتى النفس الأخير
و راح أبو حسن مع جنوده الثمانين – الذين توقفوا عن التدريب منذ عقد تلك الإتفاقبة – يبنون تحصينات سريعة حول القرية اشترك في بنائها الصغار و الكبار ، ذكورا و إناثا ؛ و من حين لآخر يسقط جريح برصاصة أو يتمزق آخر بشظايا قنبلة ، و إذ يهدأ القصف قليلا ، يُحمل الجريح إلى مدرسة القرية .
و هناك يغطى من استشهد بملاءة بينما تحاول ، فدوى ، الممرضة الوحيدة ، بمساعدة نساء أخريات تضميد الجروح . و عند انتصاف النهار امتلأت المدرسة بالجرحى و القتلى ، و كان اسماعيل من ضمن الجرحى فقد مزقت شظية ساقه .
تمكن المدافعون حتى الظهيرة من صد ثلاث موجات هجومية ، إلا أن الرابعة بدأت تنجح و خاصة بعد أن قامت طائرة بإلقاء قنابلها فوق التحصينات فدمرت معظمها .
مقاتلو ( الأرغون و الشتيرن ) أخذوا يتسللون إلى قلب القرية ، ثم انخرطوا في قتال ضارٍ ، من بيت إلى بيت و من خرابة إلى خرابة .
و استمرت المعركة ضارية حتى العصر ، عندما نظر فؤاد إلى نجاده فوجده خاليا ، فتذكر رمانتيه ( قنبلتيه اليدويتين ) فجسهما ثم صاح بمن بقي حيا من رفاقه : ” سأحاول شق طريق للإنسحاب ، فليتطوع أحدكم لحماية المؤخرة ، زودوه بما بقي من ذخائركم ” .
ثم اندفع نحو الجنوب في مقدمة زملائه .
سبعة من رفاقه لم يتمكنوا من الإنسحاب فلجؤوا إلى ما بقي سالما من منازل القرية .
*****
غضب روبنسكي – و هو قائد إحدى المجموعات – إذ لم تكن هذه المقاومة العنيفة في حسبانه فاقتحم أول منزل …
صاحت سيدة مذعورة :
– ليس في البيت أحد غيري و غير أبي العاجز و أطفالي
– و الرجال أين هم ؟ ثم أضاف :
– إنهم يقاتلوننا طبعا !
ثم نصحها أن تغلق باب منزلها جيدا خوفا من انتقام الجنود ، غادرها ليقوم بتلغيم المنزل من جميع جوانبه ثم ليفجره بمن فيه . و عدَّ في سره (( واحيد ))
ثم رفس بقدمه بابا آخر ، و بعد أن عد من فيه فوجدهم ثمانية مذعورين من جميع المقاسات و الأعمار ، طمأنهم ، ثم فجرهم و عدَّ (( إشنين)) .
و هكذا انتقل و شرذمته ، من بيت إلى بيت و هو يعدّ : (( شالوش .. أرباع ….. )) أسرة يصلونها بطلقات رشيش ، و أخرى يذبحون أفرادها ذبح النعاج ، و غيرها يدفنونها تحت حطام منزلها المدمر..
و على فراش الموت تشبث أبو نضال بقنبلة يدوية بيد كادت تتخاذل من الضعف ، عندما خلع بعض أفراد مجموعة روبنسكي باب داره ، استجمع بقايا قوته فانتزع أمان القنبلة بأسنانه ، ثم ألقاها بين أقدامهم ، و قبل أن تصدر عنهم أية ردود فعل تناثرت أشلاؤهم مختلطة بأشلائه .
جن جنون روبنسكي فاندفع مع من بقي حيا من وحدته يفتك بمن تطاله أيديهم .
*****
كانت الممرضة- فدوى – منهمكة بتضميد الجراح ، أمروها بالتوقف ، توسلت إليهم أن يتركوها لمهمتها الإنسانية ، مشيرة إلى ذراعها حيث شارة الصليب و الهلال الأحمرين ؛ قهقه إلياهو عاليا – و هو من الشتيرن – ثم وجه إليها رشيشه فمزق جسدها الغض ، و أجساد من حولها من الجرحى ، ثم أخذ يتلو بالعبرية بعد أن ضبط موقع قلنسوته السوداء : ” و إن مدن الشعوب التي يعطيك الرب نصيبا فيها فلا تستبق منها نسمة ” ثم أضاف بصوت مجلجل : ” إنه عصرك ياهوووو ، لقد ولّى عصر الآخرين ياهوووو ، إنه عصرك يا إله اسرائل و يهوذا و السامره “
*****
اجتمع من بقي على قيد الحياة في ساحة المدرسة بناء على أوامر رعنان ، و قد أحاط بهم عناصر المليشيات مصوبين إلى رؤوسهم بنادقهم .
أمروهم الآن بالجلوس على ركبهم و رفع الأيدي فوق الرؤوس.
ثم أمروهم أن يتجمدوا بلا حراك .
ثم جاء من يفصل الرجال عن النساء ، و من بين الرجال اكتشفوا الشبان السبعة ؛ فانهالوا عليهم بكعوب بنادقهم و كعوب أحذيتهم ضربا . ثم ألقوا بهم مكبلين في شاحنة ، بينما كانت دماء أكثرهم تنزف و عقول بعضهم تحت رحمة الإغماء .
قال إتسل و هو يشير إلى جميع الأسرى :
– إنهم ملكي يا رعنان
فرد عليه روبنسكي معترضا :
– فيما عدا الشبان السبعة ، لقد لحقت بسريتي أفدح الخسائر !
فتدخل رعنان حاسما الأمر :
– قسمة عادلة ، و ليبارككما رب إسرائيل .
*****
عندما بلغ إتسل حي منتفيوري ، أمر برش و جوه أسراه بالماء الآسن .
أنزلوهم من الشاحنات ..
مزقوا ثيابهم ..
عرّوا صدور الفتيات..
لم يأبهوا لتوسلاتهن و عويلهن..
و عندما حاولت عجوز ستر حفيدتها ، مزقها أحد وحوشهم بحربة بندقيته .
وصل الآن قارعو الطبول ، و بدأ الموكب .
في شارع الملك جورج ، خرج السكان من بيوتهم و أخذوا يقذفون حطام دير ياسين الآدمي بما تطاله أيديهم من أحجار و زجاجات فارغة و قمامة .
*****
مع إنبلاج الصباح كان الشبان السبعة يتهالكون في الحفرة الكبيرة التي حفروها بأيديهم و قد أدركوا أنها ستكون قبرا جماعيا لهم ، كان ثلاثة منهم على الأقل ينزفون .
و بينما كان روبنسكي يصب البنزين في الحفرة و على حوافها ،أدرك أحدهم نيته ، فحاول تسلقها ، أصابته صلية رشيش فأردته في الحال ، فاستسلم الباقون لمصيرهم .
أشعل روبنسكي النار…
أمسكت بهم النار ، فأخذوا يرقصون معها رقصة الموت و يودعون الحياة بصرخاتهم المدوية .
كان روبنسكي خلال ( نيرونيته ) المبتكرة ، يصيح صيحات هستيرية تتخللها عبارات باللغة البولونية :
” . انتقمت لكم أيها المضطهدون منذ بابل .. هكذا سيكون مصير ( الغوويم ) و كل من يحاول مس شعرة من جلود بني إسرائيل ، و كل من يحاول وقف انتشارنا في مملكة رب إسرائيل من الفرات إلى النيل …”
ظل روبنسكي واقفا إلى جوار الحفرة إلى ما بعد خمود آخر لهب فخمدت معه- من ثم – نيران حقده ، ثم نكص إلى القرية المكلومة .
*****
كان إتسل قد عاد بعد طوافه بأسراه في شوارع أرشليم إلى القرية .أمرهم بالإلتصاق بأحد الجدران ، فتهالكوا على بعضهم بعضا كالأموات ، و إن هو همّ باصدار الأمر بإعدامهم ، ظهر يهوشع في سيارة ( جِب ) من مسروقات الثكنات البريطانية ، و إلى جانبه و خلفه بعض القادة .
تحدث أحدهم مع رعنان و قادة العملية الآخرين ، بحزم مشفوع بالود :
– كفى قتلا .
الإذاعات العربية و الأجنبية بدأت تجسم الأمر..
المندوب السامي البريطاني تدخل بكل ثقله ، و نحن مرغمون على إبقاء حد أدنى من العلاقة مع الإنكليز .
سلِّم الأسرى إلى الصليب الأحمر في أرشليم ، و لا تنس التخلص من الجثث .
*****
و في دير ياسين
فرغ لتوهم أبطال ( الأرغن زفاي لئومي ) من دفن آخر جثة في بئر القرية ، و كانت جثة طفل ذكر ، فصل أحدهم خصيتيه ، رمزا لإستئصال آخر عنصر عربي من المنطقة .
و علق إلياهو و هو يمسح عرقه :
– ما أعمقها من بئر ، كيف اتسعت لكل هؤلاء ؟
و بينما كانت جرافة تهيل التراب فوق الجثث ، و تملأ ما بقي فارغا من البئر لتسويه بالأرض المجاورة ، كان الأبطال الميامين ينتظمون في حبل بشري ، يطول شيئا فشيئا ، في ممارسة لطقوس ( الهورا ) أي رقصة النصر !
——————
سوري مغترب