رواية قصيرة
نزار ب. الزين*
ما كاد آخر زبون ينصرف من مكتب الأستاذ حقي الجوابري ، حتى دخلت (كلير) و على فمها إبتسامة عريضة ، مزجتها بكل ما تملكه من ود ، و في يدها صينية فضية مستديرة عليها فنجان قهوة و كوب ماء مثلج .
هذه الإبتسامة لطالما جعلت حقي بك – هكذا يلقبونه – يشعر بالراحة و الإلفة فيجد نفسه مرغما بالرد عليها بمثلها أو أعمق ، و ما يزيده احتراما لها ذلك الإخلاص و التفاني بالعمل .
أما وجهها الصغير و أنفها المدبب الذي تتركز فوق أرنبته نظارة طبية سميكة و جسمها الضئيل قصرا و نحولا فلم تثر فيه أي نزع من العواطف ما سما منها و ما انحدر ، الأمر الذي عزز نظرته إليها كسكرتيرة و حسب .
و هذا ما أكده للأستاذ عيد الباقي زميله في معهد الحقوق و جاره المقابل في العمل ؛ قال له يومئذ : ” إنها طالبة جامعية لم تتمكن من إكمال تعليمها في جامعة بيروت الأمريكية لأسباب مادية ، و قادتها الصدف إلى مكتبي ، حيث أثبتت جدارتها في تنظيم أوراقي و ملفاتي و مواعيدي ، و لا أرى ضيرا لكونها يهودية ، فنحن ضد الصهيونية و لسنا ضد اليهود كأفراد ” . بهذه الكلمات حسم الأستاذ حقي النقاش الذي لم يتكرر فيما بعد .
من عادته أن يصرفها وراء آخر زبون عند جاره أبو أكرم الحلاق ، فقد ضاعف حذره منذ أن ناقشه الأستاذ عبد الباقي حول الموضوع ؛ إلا أنه الليلة و على غير عادة ، خرج عن تحفظه تجاهها،إذ ألحت عليه رغبة شديدة في التعرف على خلفيتها .
فجرى بينهما الحوار التالي :
– ( مدموزيل كلير ) هل أنت مستريحة في عملك في مكتبي ؟
– ( مسيو حقي ) لو لم أكن مستريحة لما بقيت ، المهم أن تكون راضيا عن عملي .
– طبعا أنا راض بكل تأكيد .
و تريث قليلا ليجمع الكلمات المناسبة لسؤاله التالي ، فما أن أعجبته الصيغة حتى طرحها قائلا :
– ( مدموزيل كلير ) ألا تجدين حرجا في العمل لدى مسلم ؟
– اليهود بشكل عام لا يجدون حرجا في العمل أيا كان نوعه ، و أنا شخصيا لست متعصبة و مسألة الدين بالنسبة لي أمر شخصي بين الإنسان و ربه ، و في الحقيقة أنا من ال ( ها أسكلاه ) .
-يعني ؟؟؟
– يعني ، من اليهود المستنيرين
فابتسم ، و التمعت عيناه سرورا ، فهاهو يكتشف نصيرا جديدا لعقليته العلمانية ، و هذا ما شجعه على طرح سؤال أكثر جرأة ، فقال :
– و أنا أيضا لست متعصبا ، و لكن هذا لا يمنع محاولة فهم المتعصبين ، ألا تؤيدينني في ذلك ؟
– بكل تأكيد .
– كونك مستنيرة و غير متعصبة ، لا ينفي عن أغلب اليهود تعصبهم ، فمثلا فكرة ( الغوويم ) – أي الآخرون الأدنى مرتبة– لم يناد بها غير اليهود .
– ( مسيو حقي ) فكرة الغوويم موجودة لدى كل البشر في كل العالم و في جميع العصور ، و في الواقع نحن بالنسبة إليكم جماعة من ( الغوويم ) ، و أنت بالذات تحظر عليّ مقابلة زبائنك ، كي لا يقال عنك أنك توظف أنثى من ( الغوويم )
فضحك و ضحك ، ثم أجابها بعد أن هدأ :
– لقد طاش سهمك هذه المرة
فنظرت إليه مستغربة و منتظرة بقية حديثه ، و لكن إستغرابها زال عندما قال لها :
– إنني أتحفظ لأنك أنثى و حسب ، أنثى تعمل عند رجل أعزب ، فأصون بذلك سمعتي و سمعتك على الأقل من لسان أبو أكرم الحلاق أكبر مصدر للإشاعات في هذا البلد ، ثم لا تنسي أنني ربما أكون الأول في دمشق يوظف لديه سكرتيرة ، شعبنا لم يألف حتى الآن سوى العاملات كمعلمات و ممرضات و ربما قلة من الموظفات في البنوك ، تلك هي المسألة .
فاسترخت كلير على مقعدها الوثير ، ثم ابتسمت ابتسامتها الودودة ، و بشكل غامض أضافت شيئا ما من أنوثتها فبدت إبتسامة مريحة فوق العادة ثم أجابته قائلة :
– ( مسيو حقي ) ، أنا الآن أكثر سعادة من أي وقت مضى .
– هل أفهم أنك كنت متضايقة كل تلك الأيام ؟
– ليس على الإنسان أصعب من معاناة الدونية ،بينما يشعر في قرارة نفسه أنه لم يكن في يوم من الأيام أدنى من غيره .
هنا . نظرت إلى ساعتها فجأة ، فهبت واقفة و كأن عقاربها لدغتها ، فاستأذنت ثم انصرفت .
******
و استمرت الحوارات بينهما ، فيما بعد في كل فرصة سانحة.
قال لها ذات يوم :
– أنت – كما فهمت – لا توافقين على فكرة ( الغوويم )
– ( مسيو حقي ) الغوويم سلوك بشري قديم ، المصريون الفراعنة كانوا ينظرون لليهود على أنهم ( غوويم ) و كذلك فعل الروس حتى إنهيار إمبراطوريتهم ، فما أن تشعر جماعة بشرية بأن لها هويتها المميزة حتى تتوهم أنها الأفضل و يعزز من ذلك قوة عسكرها و تقدمها على المستويين الإقتصادي و الثقافي .
– فابتسم ثم هز رأسه بالنفي و هو يقول :
– هذا تفسير ساذج ، ‘إن فكرة شعب الله المختار ، هي بالأصل فكرة يهودية ، و أن الآخرين مجرد عبيد لهذا الشعب الذي يجب أن يسود العالم ذات يوم .
– لقد ساق ( بختنصر) شعبنا كله إلى العراق للعمل كعبيد في الإقطاعيات البابلية ، و تقول أننا نريد استعباد الآخرين ؟، إننا ضحايا معاداة السامية منذ الأزل و حتى اليوم ، و لا بد أنك تعلم ما يتعرض له اليهود الألمان من تهديد ، جعل القادرين منهم يغادرون ألمانيا .
و إذ لاحظ الأستاذ حقي توترها غير إتجاه الحديث بلباقة سائلا:
– هل ستسافرين غدا إلى بيروت ؟
– أجل مع الفجر ، و قد أغيب عن المكتب يوم السبت أيضا ، إذا أذنت لي .
*****
في بحمدون المحطة توجهت كلير إلى المعبد مباشرة ، و بعد أن حيت كبير الحاخامين ، توجهت معه إلى القبو حيث تجمع عشرات من اللاجئين اليهود قدموا من عدة بلدان أوربية عن طريق البحر مستخدين بعض موانئ صيادي الأسماك كمينائي جونيه و طبرجة .
فوجئت كلير بهذا العدد الكبير فالتفتت إلى الحاخام مؤكدة أن تهريب مثل هذا العدد مستحيل ، فطمأنها هذا قائلا :
– خذي العدد الذي يناسبك ، فسوف نرسلهم على دفعات .
مذ كانت كلير طالبة في الجامعة الأمريكية لبت نداء الوكالة اليهودية التي أعلنت عن طريق المعابد عن حاجتها إلى شبان يهود من الجنسين من سورية و لبنان للمساعدة في تهريب اللاجئين اليهود إلى فلسطين . كان ذلك هوالسبب الحقيقي لتركها المؤقت للجامعةالأمريكية .
و قد أكد لها الحاخام شاؤول ذات يوم ، أن ما يجري في مينائي حيفا و تل أبيب من حين لآخر من منع اللاجئين اليهود من دخول الميناء و إثارة الضجة الصحافية و الإذاعية حول شرعية أو عدم شرعية لجوء هؤلاء ، إن هو في حقيقة الأمر إلا لإبعاد الأنظار عما يجري على طول الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط بدءا من ميناء الإسكندرون و حتى موانئ الصيادين في غزة و العريش ، و بالتواطؤ مع السلطات التركية و الفرنسية و البريطانية .
و مع هبوط الظلام تقدمت ثلاث سيارات باتجاه رأس الناقورة ، و قبل الوصول إلى حاجز الحدود ، ترجلت كلير و الآخرون ، و توجهوا نحو الأرض الفلسطينية من خلال ( قادومية ) و إن هي إلا ساعة أو تزيد حتى ظهرت لهم قافلة من البغال حملتهم و أمتعتهم الخفيفة نحو أرض الميعاد . بينما عادت كلير أدراجها من حيث أتت .
*****
و يعود الأستاذ حقي إلى إستفساراته و تعود كلير للإجابة على أسئلته دون تذمر .
سألها ذات يوم :
– هل صحيح ما يقال أن أحد طقوس عباداتكم السرية ، تستوجب إستخدام دماء إنسان من ( الغوويم ) ؟
– هذا هراء و إفتراء
أجابته بحدة لم يعهدها فيها من قبل ، فرد عليها معتذرا :
– إنني آسف و لكن هذا ما قرأته عن حادثة جرت في القرن الماضي سنة 1840 تحديدا ، هنا في دمشق ، و قد نجم عنها إضطرابات طائفية .
– لم أسمع بذلك من قبل .
– كان سببها إختفاء أحد القساوسة المسيحيين في الحي اليهودي .
– لطالما أشيعت عنا الشائعات في الروسيا و في بريطانيا و غيرهما ، ثبت أنها محض إختلاق بعد أن راح ضحيتها العشرات من شعبنا .
– ما تفسير ذلك برأيك ؟
– الحقد و معاداة السامية .
– لم الحقد عليكم أنتم بالذات دون شعوب الأرض الآخرين ؟
مدموزيل كلير ، نحن ساميون مثلكم ، و لكننا لا نشعر بالدونية أو الإضطهاد مثلكم و لم يحاول الإنكليز أو الفرنسيين رغم سياستهم الإستعمارية أن يسيئوا إلينا كما فعل الروس مثلا بكم ، لا بد من وجود أسباب أعمق لهذا العداء المستحكم ضدكم ، و صمت قليلا ثم أضاف : ” دعينا من هذا كله يا كلير ، و لنلتفت إلى أشغالنا . ”
*****
بينما كان حقي بك يلقي محاضرة في سينما ( روكسي ) المستأجرة للإحتفال بالذكرى الأولى لإشهار جمعية الفجر الجديد ، كانت كلير تستعد لمغامرة أخرى نحو رأس الناقورة ، و لكن هذه المرة سوف تقابل أخويها اللذان هاجرا إلى فلسطين منذ سنة و نيّف و قد نصحها الحاخام أن تستقر هناك ، و سيقوم آخرون بعمليات تهريب المهاجرين؛ .ثم أضاف ” إن مشروع دولتنا اليهودية أصبح أقرب منالا من أي وقت مضى ، و على الشبان من أمثالك أن يتدربوا على السلاح لمواجهة أي إحتمال .
و كالعادة قادت مجموعة من المهاجرين من جميع الأعمار و لكنها هذه المرة كانت مشغولة البال – طوال الطريق – بما قاله الحاخام شاؤول .
أما حقي بك فكان مستمرا في محاضرته : ” إن الشعب الذي أرغم المستعمرين الفرنسيين على إعادة الوحدة للتراب السوري ، لقادر على إعادة لواء الإسكندرون و منطقة كليكيا كلها إلى الحظيرة السورية .
و تعالى التصفير من من جنبات القاعة كما تعالت الهتافات بسقوط الإستعمار و التآمر التركي – الفرنسي .
أما كلير ، فكانت تخاطب أفراد مجموع جديدة فقالت : ” لسوء الحظ ، فهناك بعض المصاعب ، فقد تحرك عرب فلسطين بما يشبه التمرد أو الثورة مطالبين بوقف الهجرة ، و قد إعتدى بعضهم على إخوان لنا في معسكر للمهاجرين قرب( نهاريا ) و أماكن أخرى ، لذا ستكون الطريق أطول و أكثر مشقة من العادة ، فسنتسلق بعض التلال الوعرة ، و لكن ، هناك بالتأكيد مساندة من إخواننا و من ضابط بريطاني وعد بالحماية ، فسيارقب المنطقة عن كثب و يتدخل عند الحاجة ، و لدينا من الطعام و الشراب ما يكفي ثلاثة أيام ؛ هذا و سأكون برفقتكم إلى النهاية ” .
تناول حقي بك ما في الكوب من ماء محلّى ، ثم جفف جبينه بمنديله و نظر إلى الجمهور الذي غصت به القاعة و استأنف خطابه بصوته الرنان : إن الحكومة التي تركت المشاريع الإستعمارية تمر دون أن تحرك ساكنا ، أتهمها بالتخاذل أو حتى بالتواطؤ . ”
و دوى تصفيق حاد و صاح صائح : ” فلتسقط الحكومة المتخاذلة تا ” فردد الجمهور : ” تسقط تسقط تسقط ”
تريث حقي بك قليلا ريثما هدأ اللغط في الصفوف الخلفية ثم إستأنف قائلا : ” و على الرغم من الضغط الهائل الواقع على الرقبة السورية في محاولة لانتزاع رأسها عن جسدها ، فإننا لن ننسى كفاح إخواننا الفلسطينيين ضد المؤامرة الصهونية البريطانية ، و أقول لهم بملء فمي أن أن الشعب السوري لا زال على عهده من مساندة إخواننا الفلسطسنيين ، و أقول للعرب كل العرب أننا نواجه أملا يهوديا عمره مئات السنين يمضون إليه بإصرار ، أمل في أن يقيموا إمبراطورية يهودية في شرق المتوسط مدعوما بعقيدة دينية مهيمنة تماما على الفكر اليهودي و على قطاع عريض من الفكر المسيحي الأنكليكاني .
و صاح صائح: ” تسقط الصهيونية تا ” فردد الجميع : ” تسقط تسقط تسقط ”
أما كلير فقد إنطلقت مسيرتها ، بعد أن إطمأنت إلى كافة الترتيبات . كانت قد ودعت أبويها و رجت والدها أن يفتح مكتب الأستاذ حقي منذ صباح اليوم التالي المبكر ، و يضع المفاتيح فوق طاولة مكتبه مع رسالة شكر و وداع .
*****
في اليوم التالي عاد الأستاذ حقي ليجد فوق مكتبه النسخة الثانية من مفاتيح المكتب مع قصاصة ورق كتب عليها ما يلي :
عزيزي الأستاذ حقي ، حقا لقد قضيت في عملي معك و قتا طيبا و لكن أقدم لك إعتذاري عن قراري المفاجئ هذا ، فسألتحق بأخويّ في أرض الميعاد .
كلير
——————
سوري مغترب