رواية قصيرة
نزار ب. الزين*
جلس مروان على حافة ( السطيحة ) يتأمل الكتل المتحولة من المياه الطائرة ، تمر من أمامه و من فوقه و أحيانا – كالأشباح – عبره ، تتقاذفها أرق النسمات و تعبث بأشكالها أضأل المتغيرات الحرارية.
و تتتابع الصور ، فارس يمتطي جوادا ، يتحول الجواد إلى طائرة ، الرمح ينفصل و يتحول إلى رمانة ( قنبلة يدوية ) ، الخوذة تنفصل و تصبح حوّامة ، مظلة صنوبرة تتخذ صورة دبابة ، خبز الغراب ( الفطر ) يصير صاروخا معدا للإنطلاق ، تنفجر رأسه ببطء فتتحول إلى قنابل عنقودية ، فم المرأة ذاك مفتوح كأنها تصرخ ، الآن ينفتح فمها أكثر و أكثر ، تتحول كلها إلى فم يطلب النجدة ، يتمزق الفم و ينفصل الفكان …
” أساطير آلهة الألمبس أستوحيت حتما من كتل ضبابية مرت أمام عبقري لم يصحُ تماما من نومه ” قالها في سره ، ثم أكمل : ” عربة الشمس الفرعونية و تنين الصين ذو الرأسين ، و خرافات الأشباح و حكايات المارد المنطلق من قمقم معروف الإسكافي ” استوحيت منها كذلك على ما أرجح ” .
” ترى ما الذي جعلها صوراً مرعبة هذه الأيام ” تساءل في نفسه ، ثم ما لبث أن أجابها : ” حتما لأنها قادمة من الساحل الملتهب ” .
كانت عيناه تتحولان من حين لآخر نحو الطريق الهابط نحو القرية لعله يرى صديقه بهيج قادما من بعد ، و لكن ثمت مستنقع من الضباب الكثيف أخذ يبتلع الطريق بعد أن ابتلع القرية .
” لم يظهر بهيج ” همس لذاته متبرماً ، ثم عادت عيناه تتابع كتل البخار المتلاحقة و التي لا زالت تجري نحو الجبل ، متحولة من شكل إلى شكل إلى شكل ، هذه أشبه بإطار يحترق ، و تلك كجدار تثقبه قذيفة ، هناك قلب ينزف ، و هنالك امرأة متشبثة بطفلها ، الطفل ينفصل عن أمه ، المسافة تتباعد بينهما ، الطفل يتبدد ، و الأم تتحول إلى مدفع هاون ….
” لم يظهر بهيج بعد ” همس بقلق ، ثم برر له : “لعل معوقا عوقه أو لعله نسي الموعد ؟! ”
بدأ الضباب يخفي الصنوبرات على السفح المقابل ، و هناك في أقصى الشرق و قريبا من قمة ( الجِرد ) تتجمع جحافله استعدادا لهجمة ما ، كأنما هي لعَدَمٍ يسعى لابتلاع الوجود ، أو لموت يود افتراس الحياة … و المستنفع لا زال ينمو و ينمو ليغرق الأحجار و الناس …
ثمت صنوبرة تناضل ، و هناك قبعة منزل قرميدية تطفو ، و رأس عمود هاتف يتطاول بعنقه بحثا عن إطار نجاة ، و في العمق طرف من طريق الوادي لا زال بارزا كأفعى عملاقة ، و نصف آدمي بدأ يظهر ” إنه بهيج ..
( شرّف ) أخيراً ” همس مع زفرة ارتياح ، ثم تنكب بندقية الصيد و مضى يلاقي صديقه .
*****
– إنه يوم فريد لصيد ( الحجل ) يا بهيج ..
– أنا افضل ( الترغل ) يا مروان ..
– سيحجبه الضباب عنا يا بهيج ..
– الضباب سيحجب حتى الحجل و لكن لفنرة ، ما أن نبلغ قلب الغابة حتى يتبدد ..
نظر نحو صديقه مستغرباً ، ثم سأله :
– لِمَ لم تحضر بندقية صيد يا بهيج ؟ و ما ذا تحمل في هذه الحقيبة يا بهيج ؟
فتح بهيج الحقيبة و أخرج منها رشيش كلاشنكوف …
فغر مروان فاه دهشة و مالبث أن تساءل :
– كلاشنكوف لصيد الطيور ؟
– لم أعثر على خردق لبندقية الصيد و لكنني عثرت على رصاص ، رصاص كثير ، على أي حال فقد أصبح شكل بندقية الصيد جد هزيل ..
– رصاص من أجل عصفور ، إنه كصاروخ من أجل إنسان ؟!! هل سنفتح في الغابة جبهة قتال ؟ هل يعلم أبوك ؟
– لم ينتبه إلي أحد ..
– هذا للحرب يا بهيج و ليس لصيد الطيور ..
– الحرب ممتعة يا مروان حتى لو كانت حربا على الطيور ..
– الحرب ممتعة لمن لم يكتوِ بنارها ..
سقطت قنبلة فسفورية فأحرقت بيت سمية و شوت سمية و أهل سمية !!
فتساءل بهيج بفضول :
– و من هي سمية ؟
– زميلتي في المدرسة ، كانت تشاركني نفس المقعد الدراسي !
– مسكينة سمية …
قالها بحزن مصطنع قبل أن يكمل مروان :
– أنا و أهلي كدنا نكون مساكين ، اخترقت قذيفة جدار منزلنا فدمرت حجرتين بكل ما فيهما ، و خاصة سريري و خزانتي و مكتبي الجديد ، و لم ينج من أغراضي سوى كتاب يحمل عنوان ( التعايش بين الطوائف ) أما نحن فكنا في القبو ، لحسن حظنا بيتنا فيه قبو ، بعض بيوت جيراننا ليس فيها أقبية فقتل أكثرهم !
– و مع ذلك فالحرب لعبة ممتعة .. خلال عرس ابن عمي أطلقوا آلاف الرصاصات … صوتها كان مثيرا ….و ممتعا .!.
و كشيخ حكيم رد عليه مروان قائلاً :
– الحرب ليست عرسا يا بهيج !
الحرب رصاص قاتل و قذائف مدمرة ..
جارتنا أم مطيع ، انقطعت المياه عن دارها ، فخرجت لتملأ دلوا من أنبوب فجرته قذيفة ، و بينما كانت عائدة أصابت رصاصة قناص دلوها فانسكب الماء فوقها ، ثم ثقبت رصاصة أخرى رأسها ، و ما لبث الماء أن اختلط بالدماء بين ثنايا ثوبها ، و لكنها ظلت تسير .. هل شاهدت ميتا يمشي ؟
و ظلت تسير حتى بلغت باب منزلها فأنزلت الدلو عن رأسها بما بقي فيه من ماء ثم تهاوت … هل شهدت ميتا يسقي العطاش ؟!!!
صمت بهيج متأثرا ، ثم سأل صاحبه :
– و لكن لِمَ أطلقوا عليكم القذائف و رصاص القنص ؟
تساءل بهيج متعجبا ، فأجابه مروان :
– يقول والدي ، لأننا نصرنا المظلومين ، فنجدة المظلوم – بعرفهم – جريمة …
قال بهيج :
– أفقت ذات ليلة فشدتني سماء المدينة الأم ، كانت سماؤها كلها مشتعلة كأنها في ليلة عيد الإستقلال ..
– ماشاهدته كان تدمير الإستقلال !
صمت بهيج للحظة متفكرا قبل أن يطرح سؤاله التالي :
– ترى كم كلفة الصاروخ ؟
– هل تفكر بصيد العصافير بالصواريخ ؟ . ربما ثمن منزل والدك و دكانه معا لا يكفي لشراء صاروخ أو اثنين ..
– من أين أتوا بكل هذه الأموال ؟ تساءل بهيج ، فأجابه مروان :
– يقول والدي أن الممولين كثر ، يبسطون أياديهم لشراء صاروخ و يغلونها من أجل رغيف…..
– منظر الصاروخ أحلى من منظر الرغيف ..
قالها بهيج و كأنه يلقي بحكمة ، فنظر مروان إليه شذراً ، ثم أجابه :
– هراء ما تقول ، يمكن للرغيف أن ينقذ إنسانا من الموت ، و لكن الصاروخ لا يحمل غير الموت …
جارتنا أم سعيد فقدت رضيعها لأنه لم يجد في ثديها ما يروي جوعه..أقعدها قصف الصواريخ فجاعت و لكن صغيرها لم يحتمل الجوع !
ثم أضاف ساخرا :
– ألا زلت مصمما على صيد العصافير بالكلاشنكوف ؟
فأجابه بهيج متهكما :
– يقول أصدقائي في الضيعة : ” من لا يحمل الكلاشنكوف فهو غر ”
فضحك مروان ملء شدقيه ثم علق قائلا و هو لا يزال يضحك :
– اشترى لي والدي بندقية الصيد بعد توسل و رجاء ، و تدخل أمي و عمي ، ثم إني لا أجيد استخدام أكثر من بندقية صيد ،…فلأكن غرا أفضل لي من حمل سلاح خطر من وراء ظهر أهلي
– فأجابه مطمئنا :
– سأعلّمك في الغابة إن شئت .. و سيكون الأمر أبسط مما تتصور ..أما عن أبي فلا تقلق من ناحيته فهو مشغول بدكانه منذ الفجر و حتى العِشاء.
******
انقشع الضباب
و برزت القرية هادئة
لا زال الناس فيها من الطائفتين متعايشين
خرجوا لتوهم من منازلهم يلقون على بعضهم بعضا تحية الصباح
– سعيدة يا بو مطانبس
– سعيدة مباركة يا أم نعمة الله
– سعيدة يا بو الياس
– سعيدة مباركة يا بو معروف
– سعيدة يا أم تقلا
– – سعيدة مباركة يا أم ربيع ، كيف حال نجلا و خوله و ربيع و سامي و بديع ؟
– بخير ، نشكر الله ، ربنا يحمي لك تقلا و تامر و كامل و كميل و أبوهم فوق راسهم ، و خلق الله أجمعين ..
– و يخلي لك يا ( خيتي ) ، هل سمعتِ عن ( البمبه ) التي سقطت على باب السينما أثناء خروج المتفرجين ؟
– سمعت يا ( خيتي ) ، عساها شدة و تزول ، بخاطرك يا أم تقلا ، ( ورايي اليوم خبيز ) .
– ربي يعطيك العافية ، الله معك
*****
أبو بهيج فتح دكانه لتوه
و بهيجة ابنته تكنس أرضها
ماري روز إبنة فلاح ( البَيك ) تدخل الدكان و في يدها سلة بيض ، و في يدها الأخرى يد شقيقها الصغير ..
بعد أن ألقت تحية الصباح عرضت بضاعتها قائلة :
– الماما تسلم عليك و تقول لك : ” البيض غلي ” يا عمي بو بهيج ..
– سلمي لي عليها و قولي لها : ” الزيت غلي ، و كذلك البرغل و العدس و الطحين !
– الماما تقول ” لن تقبل بالبيضة الواحدة أقل من فرنك ”
– و أنا أقول : ” البيض لا يلزمني اليوم ! ”
– بكم تناسبك البيضة يا عمي بو بهيج ؟
– لن أدفع أكثر من أربعة قروش
– في العاصمة يبيعونها بعشرة يا بو بهيج
فضحك و هو يجيبها :
– بيعيها في العاصمة يا ماري روز
– ( و لَو يا بو بهيج ، مو عيب نتشارع على ثمن بيضة ؟ ، خدها على أربعه ، خدها بدون مصاري إن بتريد ! )..
و لكن الصغير يصيح فجأة :
– ماري روز .. ماري روز … صوت إطلاق نار !
بهيجة يجمدها الخوف ، تقترب منها ماري روز و تلتصق بها، أما أبو بهيج ، فيترك الدكان و يخرج إلى الساحة ، محاولا استشعار جهة االطلقات ، ساحة القرية تمتلئ بالمتسائلين القلقين ، و رؤوس كثيرة تشرئب من النوافذ ، و نساء بدأن يستدعين أولادهن بعصبية ..
صلية رشيش جديدة يسمع أزيزها بوضوح أكبر ، تتلوها صيحات النساء المذعورات ، أما الرجال فبدا عليهم القلق و التوتر .
تعود ماري روز بسلة البيض و بأخيها مهرولين ..
يغلق أبو بهيج دكانه و يمضي إلى بيته مهرولاً ..
النوافذ الخشبية في بيوت القرية تغلق ، الواحدة بعد الأخرى ..
و ما أن وطئت قدما أبو بهيج عتبة بيته ، حتى هبت أم بهيج تتوسل إليه و هي في أشد حالات الإنفعال ، أن يبادر للبحث عن بهيج ، فقد خرج منذ الفجر لمقابلة صاحبه المصطاف في الضيعة ( الفوقا ) ، أما بهيجة فكانت تبكي بصمت و قد التصق بها أخويها الصغيرين ..
*****
و في الغابة وقف مروان و بيده ( الكلاشنكوف ) ، أما بهيج فقد فرغ لتوه من صف بضع علب فارغة من الصفيح على أبعاد متفاوتة ، ثم التفت إلى مروان قائلا :
– هكذا شاهدتهم يتدربون ، كلما أصبتَ عددا أكبر في الرشة الواحدة ازددت اقترابا من الإتقان .
سأله مروان بفضول كبير :
– من هم الذين شاهدتهم يتدربون ، شبان قريتكم ؟
– أهل قريتنا مسالمون ..
– و هذا الكلاشنكوف ؟
– أودعه قريب لأبي مع ذخائره ، و هو من ضيعة بعيدة …
يتحرك مروان و بهيج في طريق العودة ، يقول الأخير لصاحبه :
– ليتني أصبح مقاتلا .
– لتخطف الناس على الهوية ؟
– بل لأطلق النار على أهداف حقيقية ..
– الطيور أهداف حقيقية و لكنك لم تصب منها ريشة .
– هربت من شدة الصوت ..
– ألم أقل لك أن الطيور لا تصاد بالكلاشنكوف ؟
*****
صاح بهيج فجأة :
– هذا هدف حقيقي يا مروان ، سأصيبه من بعد مائة متر ..
– أليس تمثالا مقدسا ، أليس له أصحاب ؟
– ( و لا يهمك ) ، لن يرانا أحد ، ما زال الوقت مبكراً !
– قد يتحطم يا بهيج ..فتسبب لنا مشكلة !
– يوجد منه الكثير على طول الطرقات ..
– هل تعرف لِمَ ينصبونها ؟
– يقولون ، أنها من أجل حماية الطرقات ….
– و أنت تريد إبطال حماية الطرقات ؟
– قلت لك ، يوجد منه الكثير ، و كذلك فإن الطرقات ليست ملكا لهم وحدهم .
*****
وقف بهيج وقفة الإستعداد ، و صاح صيحة المقاتلين ، ثم أطلق صلية من رشيشه حطمت التمثال في الحال ، و ملأت البناء الصغير الذي يحويه بالثقوب .
أما في القرية فقد ازداد الرعب ، و تطوع شابان لمرافقة( أبو بهيج ) في بحثه عن إبنه ..
فرانسوا الأبله ( أخوت الضيعة ) و راعي مواشيها و بركتها – كما تقول العجائز – كان قريبا من الصبيين ، و يتفرج عليهما خفية ، متمنيا أن يسمحا له بإطلاق بضع طلقات ، و عندما لملم شجاعته و اتجه نحوهما ، كان بهيج قد فرغ لتوه من تجريب مهارته ،
و لكن فرانسوا ما أن شاهد التمثال محطما ، حتى ترك عنزاته للديب ، و أطلق ساقيه يسابق الريح في اتجاه القرية ، و هو يصيح :
– يا ناس …ضربوا التمثال ، يا أهل ضهر الهوا ، حطموا التمثال ..
*****
فتيان ( الأخوية ) يتجمهرون غاضبين …
يفرغ أبو بهيج من تأديب إبنه …
يتجه مع وفد من وجهاء و شيوخ الحي الغربي في وفد إلى الحي الشرقي لتقديم الإعتذار ..
شبان ( الأخوية ) من الحي الشرقي ، وصلوا قبله إلى دكانه فأشعلوها ، ثم توجهوا غاضبين نحو بيته …
تجمعت أم مطانيس و أم الياس و أم نعمة الله ،و أخريات ، فشكلن سدا بشريا في وجه الشبان الثائرين …
و لكن فرانسوا ( الأخوت ) ما فتئ يصرخ : ” قوّصوا الثمثال .. كسّروا التمثال ” فنُحيت النساء عنوة و استؤنف الإندفاع ..
صحيفة النفط لا زالت ملأى .. و الوجوه المحتقنة لبست قناع الشيطان …
عاد شيوخ العقل إلى دورهم مسرعين ، دون أن يتمكنوا من إنجاز مهمتهم .
و عاد أبو بهيج ليرى دكانه و دكاكين آخرين من أبناء طائفته تلتهمها النار .. فأسرع خطاه نحو داره ، فأخرج الرشيش من صندوقه ، و لما أصبحوا على بعد خطوات منه ، أنذرهم بعدم الإقتراب ، إلا أنهم ظلوا مندفعين ، فلم يجد بدا من إطلاق صلية تحذيرية في الهواء
*****
في صبيحة اليوم التالي ، جلس مروان على حافة السطيحة ، و قد تشبثت عيناه الدامعتان ، بعمق الوادي حيث اختلط الضباب بالدخان .
كان والده يشد الحبل حول سلة الحقائب المثبتة فوق سيارنه ، و لما فرغ تقدم من ابنه لائما :
– طلبت منك المساعدة و لم تفعل ، ألن تكف عن لوم نفسك يا مروان ؟ هل نسيت أنك رجل و أن الرجال لا يبكون ؟!
– النار بلغت حرج الصنوبر يا أبي ..
– ليس الأمر ذنبك ، و لا ذنب بهيج صاحبك ، فالنار كانت و لا زالت تحت الرماد !
——————
سوري مغترب