قصة
نزار ب. الزين*
كان فاروق المخللاتي ، يوم عين دركيا ، شابا يافعا ، إضطر إلى تكبير سنه ليكون بوسعه الالتحاق بهذه الوظيفة المغرية . و هو و إن لم يبلغ السابعة عشر إلا أن طوله الفارع و شاربيه الكثين ، كانا يوحيان بأنه تجاوز العشرين ؛ و لإنه حظي بالرجولة المبكرة أو لأن والده من شهداء ميسلون ، أو ربما للسببين معا ، كان أهله و أقاربه بل و زملاؤه ينادونه ( أبو شفيق ) تيمنا بذكرى أبيه .
حتى عندما كان قائده عبد القادر بك يناديه خلال التفقد الصباحي باسمه ، كان يتلكأ بالإجابة ريثما يستوعب أنه المقصود ، و عندما أنّبه القائد ذات مرة ، إعترف أنه كاد ينسى أن اسمه فاروق ، لاعتياده على لقب ( أبو شفيق ) .
و قد أحبه عبد القادر بك كما أحبه الآخرون ، فهو و إن كان أصغرهم سنا إلا أنه كان أكثرهم ذكاء و نشاطا ، حتى أنه أصبح مع الأيام ، الحكم العادل في أي خلاف ينشب بين الزملاء ، و كذلك كان المساعد الموثوق لقائده و خاصة في المجالات الكتابية ، فقد كان يحمل الشهادة الابتدائية مع دراسة صفين ثانويين إضافة !
*****
كان لسلك الدرك ( و يطلق عليه العامة الجندرما ) مهمتان أساسيتان ، أولهما صيانة الأمن في الأرياف و الثانية ردف شرطة المدينة ( البوليس ) كقوة أمن إحتياطية ، و كان مركز قيادة الدرك في قلعة دمشق ، و الدرك قوة عسكرية مدربة تدريبا جيدا و يتسلح أفرادها بالبنادق ، و كثيرا ما كان الإفرنسيون يستخدمون الدرك لمكافحة المظاهرات التي كانت تنشب باستمرار ضد وجودهم ، و لهذا السبب كان رجال الدرك كثيرا ما يستنفرون ، فيحجزون في القلعة و يحظر عليهم الخروج لأي سبب كان ، و قد تطول فترة الاستنفار لأيام أو لأسابيع أحيانا .
*****
بعد أقل من سنة واحدة من إلتحاقه بسلك الدرك أقنعته أمه بضرورة الزواج ، و لكن في صبيحة زفافه ، استدعي إلى القلعة بسبب حالة استنفار جديدة ، إلا أن رفاقه الذين أشفقوا عليه أكدوا له أنه سيبيت الليلة مع عروسه ، و في كل ليلة حتى ينتهي شهر العسل ؛ و كشفوا له للمرة الأولى أن لديهم ممرا سريا يتسرب منه كل ليلة عدد قليل منهم و بتوزيع عادل يسمح لكل منهم أن يبيت عند أسرته مرة واحدة على الأقل أسبوعيا .
و على الرغم من أن الممر كان في معظمه عبارة عن أنفاق مجاري القلعة التي تصب في نهر ( عقربا ) أحد فروع ( بردى ) إلا أنه تقبل الموقف على علاته في سبيل الوصول إلى عروسه .
و لكن عندما تلاحقت أحداث الثورة و خاصة عندما إقترب نشاط الثوار من العاصمة ، كف رجال الدرك تلقائيا عن التسرب و أخذوا يتجمعون هنا و هناك بين أركان القلعة ، يتحدثون هامسين عن مكاسب جديدة يحققها الثوار كل يوم و عن ضربات موجعة تتحدى جيش المشرق الفرنسي .
في منتصف إحدى الليالي هب ابو شفيق مذعورا على أصوات طلقات و إنفجارات غير معتادة ، فصاح جذلا ” مؤكد أن الثوار دخلوا المدينة ” ثم أخذ و رفاقه يصعدون الواحد تلو الآخر إلى أبراج القلعة المطلة على المدينة القديمة ، في محاولة لمعرفة ما يجري ؛ إلا أن تدخل المدفعية و استخدام القنابل الحارقة كان أمرا غير مالوف ، و عندما ابتدأ حي سيدي عمود يحترق أمام أعينهم أخذوا يرددون عبارات الأسى و العجز ؛ و قد فكر أبو شفيق و بعض زملائه بالالتحاق بالثوار ، إلا أن قلة عددهم و جهلهم بموقع قيادة الثوار و قلة ذخائرهم و خبز العيال ، اطفأت جميعها جذوة حماسهم ، فماذا بإمكان واحدهم أن يفعل ببندقية و خمس طلقات تجاه المدافع و الدبابات ؟
*****
قبل أن تستكمل فرقة إطفاء المدينة ، الوحيدة ، بمساعدة المتطوعين ، إطفاء آخر حرائق حي سيدي عمود (حي الحريقة التجاري حاليا ) و قبل انتشال آخر جثث ضحاياالمجزرة ، استغل اللصوص حالة الفوضى السائدة ، و أخذوا يغيرون على الحي المنكوب فيتسللون بين الأنقاض و البيوت المهجورة فينهبون كل شيء بما في ذلك الأبواب و أطر النوافذ و قطع الأثاث و الحنفيات . و قد حاول أفراد الشرطة و الحرس الليلي إيقاف هذه الجرائم دون جدوى فأكثر اللصوص كانوا مسلحين ، فكان لا بد من الإستعانة بالدرك !
و قد استطاع أبو شفيق و زميلاه في الدورية طرد الكثيرين منهم و اعتقال الكثيرين أيضا ، و كانت دوريته التي كانت برئاسته من أنشط الدوريات ، و فسر حماسته لزميليه بأن محاربة هذه الفئة من المجرمين لا تقل في قيمتها عن مقاومة الإحتلال .
و ذات يوم و بينما كان يتجول مع أفراد دوريته في إحدى الحارات المنكوبة التي بدأ سكانها في العودة إليها، شهد مجموعة من مرتزقة الجيش الفرنسي تقتحم أحد البيوت بحجة البحث عن الثوار أو السلاح ، فتباطأ أبو شفيق مستطلعا ، إلا أنه عندما سمع صياح النسوة ، اقتحم المنزل فشاهد أحد الجنود ممسكا بفتاة صغيرة يحاول إغتصابها ، بينما تبع آخرون منهم نسوة أخريات و هن يولولن طالبات النجدة ، فاختلطت أصواتهن بنباح الجنود المسعورين و هم يصيحون : ” حريم حريم ! ”
و بكل شجاعة و مروءة و بدون الإلتفات إلى النتائج صوب بندقيته نحو أحدهم ثم أطلق باتجاهه فجندله للحال ؛ هنا صعق الآخرون فجمدتهم الصدمة للحظة ، و إذ ثابوا إلى رشدهم هرعوا نحوه هائجين .
كان رفيقاه بعد أن حاولا ثنيه فلم يفلحا قد لاذا بالفرار ، و كانت ثمت مطاردة كادت تسقطه بين أيديهم مرارا لولا أن دخل سوق السروجية و نفذ منه إلى النهر ثم إلى القلعة عن طريق ذلك الممر السري ؛ و حال وصوله توجه إلى مكتب عبد القادر بك مستجيرا ؛ كان القائد قد علم بالأمر من زميلي أبو شفيق فقال له: ” لا وقت للتفصيلات ، قم فاغتسل و غير كل ملابسك و سوف نتدبر كل شئء بما في ذلك الطلقة التي أضعتها في قلب ذلك الجبان ، فوالله لو كنت مكانك لفعلت نفس ما فعلت يا بطل ” ثم قام إلى مكتبه و أخذ يعيد كتابة سجل اليومية ناقلا إليه جميع المعلومات ، مغفلا واحدة و هي المرتبطة بكل ما يتعلق بدورية السرجنت فاروق مخللاتي ، ثم قام بإحراق النسخة الأصلية مع إخفاء كل أثر لها ، و قد استغرقه ذلك الليل كله .
*****
في صبيحة اليوم التالي أُمر جميع أفراد درك القلعة بالاصطفاف في طابور عرض في ساحة القلعة الرئيسية و و قف عن بعد قائد الدرك العام برفقة كولونيل من الشرطة العسكرية الفرنسية بينما أخذ الليوتننت عبد القادر برفقة اثنين من من مرتزقة جيش المشرق ، يتجولون بين صفوف الدرك محملقين في وجه كل منهم على حدة ، و ما أن وصلا إلى أبو شفيق حتى أشارا إليه ، فأمر بالقبض عليه و وضع القيود في معصميه ، و اقتيد فورا إلى مكتب التحقيق ، عندما سأله المحقق عن فعلته الحمقاء أنكرها تماما و أضاف أنه لم يغادر القلعة أمس و خاصة أنه كان يشكو من مغص و إسهال و قد أيده زملاؤه في المهجع و أكدوا بدورهم أن السرجنت فاروق لم يغادر سريره طيلة نهار و ليل الأمس ، و كان عبد القادر بك يترجم أقواله و أقوال زملائه و يؤكدها ، و عندما طلب المحقق سجل اليومية تأكد لديه أن السرجنت فاروق لم يغادر القلعة أبدا خلال الأربع و العشرين ساعة الأخيرة ، فأمر بالإفراج عنه ، و قيد الحادث ضد مجهول . إلا أن أبو شفيق نقل إلى دير الزور كما نقل عبد القادر بك إلى حلب دون إبداء الأسباب !
*********
الفصل الثاني
لم يقدّر لأبي شفيق أن يعود إلى القلعة إلا بعد حوالي عشرين عاما كان خلالها قد تنقل بين عدة قرى و مدن ، و كلف بعشرات المهام الصعبة التي كان ينفذها باتقان و نجاح لفت أنظار رؤسائه في كل موقع ، و لعله من القلة الذين تمكنوا من الإرتقاء من مستوى صف ضابط إلى مستوى ضابط ، و إذ عاد إلى دمشق كان قد حصل على رتبة كابتن و وظيفة قائد فصيل . أما من الناحية الإجتماعية فقد عاش أبو شفيق حياة زوجية هانئة و أنجبت له زوجته شفيق و شقيقات ثلاث ، و خلال أيام استقرت الأسرة في دمشق إلا أن البلد لم يكن مستقرا أبدا .
*****
سألته أم شفيق :-” ما الذي يجري ؟ و لم هذا الاستنفار الجديد ؟ ألسنا نحتفل بانتهاء الحرب العالمية ؟”
أجابها و هو يزدرد لقيمات الفطور على عجل :- ” الحرب العالمية انتهت و لكن الحرب الوطنية ربما ابتدأت الآن ؟! ”
– حرب وطنية ؟ اللهم أجرنا !
– الأوضاع تتأزم مع الإفرنسيين ، فبالأمس اعتدوا على رجالنا و كادت تقع معركة بيننا لولا تدخل الجيش البريطاني !
– كيف ؟
– باختصار ، قام بعض المنتفعين من الوجود الافرنسي مساء أمس بمسيرة إستفزازية ، ركبوا عربات الخيل و زينوها بالأعلام الفرنسية و أخذوا ينشدون (المارسييز) النشيد الوطني الفرنسي ، و يحيون فرنسا و الجنرال ديغول ، مما أهاج الجمهور المحتشد بين ساحة الشهداء و جسر فيكتوريا لمشاهدة الفرق الموسيقية العسكرية و مواكب المشاعل احتفاء بانهيار النازيين و سقوط مدينة برلين .
و بدأت الحناجر تقابلهم بالهتافات المضادة ، ثم تحمس بعض الشبان فهاجموا إحدى العربات فقلبوها بمن فيها ثم أخذوا ينكلون بالمشاركين بالمسيرة ، مما استدعى تدخل قوة الدرك التي كانت تتمركز إلى جوار السراي ، استطاعت القوة فك الاشتباك و القبض على المتسببين بما فيهم بعض هؤلاء العملاء . ثم كانت المفاجأة ، فقد قدمت كتيبة من الشرطة العسكرية الفرنسية فحاصرت رجالنا مطالبة بإطلاق سراح أصدقاء فرنسا ، و كادت تنشب معركة لولا تدخل الجيش البريطاني !
كان شفيق يستمع إلى الحوار فسأل والده : ” لعل ميسلون جديدة في الأفق ؟ ”
رد عليه بشيء من الغلظة :
– ” شفيق ، (عندك بكالوريا)، لا وقت لديك حتى لسماع الأخبار ، ثم إني أحذرك ، ممنوع عليك المشاركة بالمسيرات ، الوضع في غاية الخطورة ، و قد علمت أن الجنود الافرنسيين لديهم أوامر بإطلاق النار إذا استفزهم المتظاهرون ! ”
إلا أن شفيق و زملاءه في مدرسته الثانوية كانوا في اليوم التالي و ما بعده في طليعة المسيرات الضخمة التي أخذت تجوب شوارع المدينة داعية إلى الإلتفاف حول الحكومة الوطنية و مطالبة بفتح باب التطوع و التدريب للوقوف في وجه الافرنسيين بعد أن نكثوا بعهودهم و نكصوا إلى سياسة الإستعمار !
*****
في مقر قيادة الدرك في قلعة دمشق ، دعي ابو شفيق مع عدد من قادة الفصائل الآخرين إلى إجتماع هام في مكتب أحد كبار مسؤولي السراي ؛ الذي افتتح الجلسة قائلا :- ” ربما سوف تقع على عاتقكم في القريب العاجل مسؤولية تاريخية ، فالأوضاع تتأزم بيننا و بين الإفرنسيين ، قيادتهم ترفض تسليمنا بقية المؤسسات – كما هو متفق عليه في وثيقة الإستقلال – و قد رفضوا بشكل قاطع تسليمنا الكتيبة السورية العاملة تحت إمرتهم ، و كذلك يرفضون البحث في أمر الجلاء ، مع أن الاتفاقيات تنص على الجلاء الكامل حال إنتهاء الحرب العالمية ، و هم أيضا يدعون أن لهم مصالح حيوية يجب التفاوض حولها ، و هو الأمر الذي رفضناه .
و أحب أن أبلغكم أن الحكومة قررت الرد على المستويين السياسي و العسكري ، فقد رفعنا شكوى إلى مجلس الأمن و يقوم مندوبنا هناك بمتابعة القضية ، أما من الناحية العسكرية ، فقد قررنا دعوة كل قادر إلى التطوع للانضمام إلى سلك الدرك باعتباره مؤسسة شبه عسكرية و كلفنا قائد الدرك العام بالإشراف على عمليتي التطوع و التدريب ، و إلى أن نستلم جيشنا الوطني ، أنتم أيها السادة قادة جيشنا الشعبي ! ”
و في قلعة دمشق تم اجتماع ثان كلف خلاله أبو شفيق بالإشراف على عملية التطوع بينما كلف زميل له بالإشراف على عمليات التدريب .
*****
طالت فترة الاستنفار كما طالت أيام المظاهرات و المسيرات فأصبحت يومية ، و لما عاد شفيق من إحداها ذات يوم ، سألته أمه مستاءة و معاتبة :
– و البكلوريا – على الله – يا شفيق ؟
صمت قليلا ثم أجاب :
– أترضين أن يقال عني جبان ؟ قالوها لي عندما انسحبت من إحداها بناء على أمر الوالد ، و كادت تنشب مشاجرة بيني و بينهم . أترضين أن يقال عن حفيد شهيد ميسلون أنه جبان ؟ لن أرضى أبدا أن يقال عني جبان حتى لو قطعتم رأسي !
أجابت بعينين دامعتين :
– إني خائفة عليك يا ولدي ، الأمور تزداد خطورة ، و والدك لم نر وجهه منذ أسابيع .
رد عليها بهدوء شيخ مجرب :
– كل الأمهات يخشين أن يصيب أولادهن مكروه و يتمنين أن يبقوا في أحضانهن ! فلو فعلوا من يدافع عن أمنا الكبرى ؟
– ليس لي غيركما يا شفيق !
– لك الله يا أمي ، ثم أطرق برأسه قليلا و هو يتمم :
– ماذا لو قلت لك أنني قررت التطوع ؟!
*****
إعتاد أبو شفيق أن يقدم تقريره اليومي عن سير عملية التطوع إلى قائد الدرك العام ، إلا أنه فوجئ اليوم بأنه يقدم التقرير إلى رئيس البلاد شخصيا :
– سيدي فخامة الرئيس ، لقد تجاوز عدد المتطوعين كل توقع ، و عددهم اليوم يربو على المائة ألف !
– علمت أنك قبلت شيوخا و يا فعين .
– سيدي ، طالبنا الناس بإبراز هوياتهم بداية ، إلا أننا تحت ضغط هذه الأعداد رأينا الإستغناء عن ذلك و اكتفينا بتقدير العمر بالنظر إلى الهيئة ، و لا بد أن يحصل بعض الخطأ في التقدير .
– لا بأس و خيرا ما فعلت ، على الأقل برهن شعبنا لفرنسا و العالم أننا جميعا كبارا و صغارا فداء للوطن .
*****
كانت ساحة القلعة تموج بطوابير المواطنين الراغبين بالتطوع ، عندما اقتيدت مجموعة من طلاب الثانوية إلى مكتب أبو شفيق ، فقد رفض تسجيلهم لأن هيئتهم تؤكد أنهم أصغر من الثامنة عشر ، و لكنهم كانوا مصرين و طلبوا مقابلة المسؤول .
و لشدما كانت دهشته كبيرة عندما شاهد بينهم إبنه شفيق ، و لم تطل المناقشة حيث لم يجد بدا من تلبية رغبتهم على أن يكونوا في الإحتياط ؛ و إذ هموا بالإنسحاب نادى شفيق طالبا منه البقاء ، ثم بادره بالسؤال :
– و البكلولريا ؟
– لا توجد بكلوريا هذه السنة !
– و أمك و شقيقاتك ؟
– لهن ربهن !
– الأمر ليس مجرد فورة حماس
– أعلم ذلك و أعلم أن هناك مخاطر .
– أنا لست راضيا عن سلوكك هذا .
– أبي هل نسيت أنك إبن شهيد ميسلون و أنني حفيده و حامل إسمه ؟
*****
بعد يوم شاق ، جلس أبو شفيق مع زملائه يستمعون إلى الأخبار من مذياع وضعوه في صدر قاعة الإجتماعات ، إلا أن أصواتهم كانت تطغى على صوت المذيع ، قال أبو شفيق :
– كان يوما شاقا ، أجابه أبو صلاح :
– هذه الأيام كلها شاقة ، العدد كبير و المدربون قلة . رد عليه أبو سامي :
– القلعة لم تعد تستوعب هذه الأعداد ، ندربهم الآن في الغوطة . ثم تساءل أبو صالح :
– ترى هل لدينا اسلحة لكل هؤلاء ؟
هنا انتبه أحدهم إلى المذياع فقال لرفاقه : ” إصغوا ثمت بيان هام ! ”
(( قامت اليوم دورياتنا الدارجة بالتجوال في شوارع المدينة للمحافظة على الأمن كالمعتاد ، و بينما اقتربت إحداها من طريق الصالحية ، أطلق عليها الافرنسيون النار ، فأصابوا عددا من أفرادها بجراح بعضها بالغة ، إن هذا العدوان على سلطتنا الوطنية لا يمكننا السكوت عنه ، و قد قمنا بإبلاغ جميع السفارات و القنصليات الأجنبية و كذلك مندوبنا في الأمم المتحدة ، و أكدنا للجميع أننا ننظر إلى إنزال مزيد من القوات الفرنسية على السواحل السورية و اللبنانية على أنه إستفزاز و عدوان مناقض لجميع ما سبق الإتفاق عليه . و قد قرر مجلس الوزراء المنعقد برئاسة فخامة الرئيس دعوة جميع عناصر الكتيبة السورية للاتحاق باقرب موقع تابع لقيادتي الشرطة أو الدرك ، و مع أسلحتهم أينما أمكن . ))
و عندما وصل المذيع إلى هذه الفقرة إرتفع صياح الحاضرين و أخذوا يصفقون و يهتفون بحياة الوطن ، ثم وقفوا وقفة التحية العسكرية و أخذوا ينشدون النشيد الوطني السوري .
*****
كان شفيق قد خرج لتوه من القلعة مرتديا الملابس الكاكية و على رأسه قبعة عريضة تشبه قبعات المغامرين الأوربيين في غابات أفريقية ، و قد بدا كل ما عليه فضفاضا بما في ذلك الحذاء العسكري الثقيل ، و لكنه كان في أوج حالات الزهو و الحماس ، و ما كاد يخطو بضع خطوات في شارع النصر حتى سمع أزيز طلقات نارية قريبة و كأن بعضها مر بجوار أذنه ، و كثيفة بحيث خالها لن تنتهي أبدا ، فانزلق مع الناس إلى الأزقة المجاورة و أخذوا يتساءلون عما يحدث ؛ و أشار أحدهم – و يبدو أنه سمع الأخبار – نحو جنود يهرولون باتجاه القلعة ، ثم علّق قائلا :
– هذا هو ما يحدث ، لقد بدأ جنود الكتيبة السورية بالفرار من المعسكرات الفرنسية.
*****
ثم أخذت المعارك تدور على هذا النحو ، تبدأ المعركة بتسلل عدد من الجنود السوريين من ثكناتهم المنتشرة على طول شارع النصر باتجاه القلعة ، ينتبه إليهم الحرس فيطلقون عليهم النار ، ثم يبدأ الدراجون بمطاردتهم ، فيتصدى لهم دراجو الدرك ، و إذ يطمئن الدرك إلى وصول الفارين بأمان ، ينسحبون إلى الداخل .
كان أبو شفيق عند باب القلعة الرئيسي يرحب بفارين جدد ، الذين أخذوا يقصون عليه ماجرى لهم مع قائد المدفعية في الثكنة المقابلة لجامع تنكز ، دخلوا إليه بصفته سوري و صارحوه بأنهم ينوون تنفيذ ماجاء بنداء الحكومة السورية فأجابهم شاهرا مسدسه : ” نحن عسكر و صنعتنا تنفيذ الأوامر ، و ما عدا ذلك فهو خيانة “، ثم أمر باعتقالهم ، إلا أن زملاءهم تمكنوا من تحريرهم و الفرار معا ، و بينما كان أبو شفيق يصغي إلى الجنود ، دوت طلقة مدفعية ثم تبعتها سلسلة من الطلقات أخذت تفجر كل شيء في القلعة ؛ همس أبو شفيق بأذن صاحبه أبو سامي و هما يتجهان إلى الأقبية : ” هذا ما لم يكن بالحسبان !”
*****
نزلت أم شفيق مع بناتها إلى المستودع ( بيت المونة ) و هي تحت الدرج المؤدي إلى الطابق العلوي لاعتقادها أنه آمن ؛ و قد تحول شارع الملك فؤاد و طريق الصالحية و أول شارع بغداد حتى السبع بحرات و شارع العابد و ما بينها من حارات إلى جبهة حربية حقيقية .
فقد أخذ الفرنسيون يطلقون الرصاص و القذائف على كل جسم متحرك ، ثم بدأت القذائف تطال البيوت المجاورة و من ثم بدأت الحرائق تشتعل في كل مكان .
دخل شفيق إلى منزله و هو يلهث ، تركت أمه مخبأها و هرعت نحوه مزيحة بقدميها شظايا القنابل و قطع الزجاج المتناثرة ، و ضمته من ثم إلى صدرها و هي تهنئه بالسلامة .
سألته شفيقة أخته :
– ما الذي يحدث ؟
– حرب ، الحرب التي طالما تنبأ بها والدنا ، إنهم يحرقون المدينة لأن الحكومة الوطنية قالت لهم لا ؛ لقد شهدت في طريقي عدة حرائق رئيسية ، إحداها في زقاق رامي و ساحة الشهداء و الثانية عند حمام الأرماني و في جوارنا هناك حريق آخر .
– سألته أمه :”ألا يجب أن نرحل؟” ، فأجابها و كأنه تولى القيادة نيابة عن أبيه : ” سوف نصبر قليلا فإذا اقترب الخطر نتجه إلى بيت خالي ” ثم أضاف : ” سأساعد الناس في إطفاء الحريق القريب منا ، هل تصدقون ؟ لقد أطلقوا النار على سيارات المطافئ بل و حتى على سيارات الإسعاف و قتلوا أحد الأطباء بينما كان يسعف أحد الجرحى في ( طلعة السنجقدار ) .
و عندما أراد شفيق المغادرة تعاونت أمه مع شقيقاته على إرغامه على نزع ملابس المتطوعين .
كانت جهود الناس في إطفاء الحرائق غير ذات جدوى فالإمكانيات لا تتجاوز دلاء الماء في مواجهة خشب سريع الإشتعال بنيت منه بيوت دمشق القديمة ، كانت النار تنتشر بسرعة منزل واحد في الساعة على الأقل و كان ازدحام الناس و صياحهم بين منقذ أو سائل عن مصير أهله ، أو حامل ماخف حمله و بين حمّال ينادي أن لديه كرّاجة ( عربة تجر يدويا ) جاهزة للنقل ، و أطفال يصيحون هلعا و نساء يولولن مذعورات نادبات بيوتهن التي يشهدن احتراقها أو انهيارها ؛ و من حين لآخر تمر فوق رؤوسهم قذيفة أو صليات رشاش فيقوى الصياح و تشتد الفوضى .
و إذ لاحظ شفيق أن الحريق بدأ يمتد باتجاه بيته ، ألقى من يده الدلو و توجه مسرعا إلى أهله آمرا بالرحيل .
*****
في اليوم التالي انقطعت كل الاتصالات بما فيها الهاتفية بالقلعة ، و تحت وابل من القذائف غادر القائد إلى السراي للتشاور إلا أنه لم يعد ، كانت بعض القذائف قد سقطت فوق الأقبية ( القواويش ) المستخدمة سجونا رئيسية فقتلت العشرات قبل أن يتصرف الحراس تلقائيا بفتح الأبواب و تسريح من تبقى من السجناء ؛ و بعد أن تكاثرت الإصابات بين رجال الدرك و الجنود الفارين و بعض المتطوعين ، بدأ قادة الفصائل يفكرون بإخلاء القلعة ؛ و لكن عندما تفجر مستودع الذخائر أمروا بالإخلاء الفوري .
*****
كان شفيق على سطح منزل خاله بالزينبية برفقة ابن خاله سمير – حيث لجأ و أهله – يتتبعان القذائف ، أين تنفجر و ما هو مدى ما أحدثته من أضرار ، و يحاولان تحديد مواقع الحرائق التي أخذت تنتشر في كل مكان ، و على حين غرة ضجت السماء بهدير سرب من الطائرات القاذفة ذات المحركات الأربعة ، على إرتفاع منخفض ، فما أن بلغت سماء القلعة حتى ألقت بقنابلها التي كانت تتأرجح مطلقة عويلها المشؤوم قبل أن تحدث دويها الهائل ، فهبّا مذعورين منزلقين إلى الطابق الأرضي حيث لجأ الجميع صغارا و كبارا ، و ما أن حكيا عما شاهداه حتى بدأت أم شفيق تلطم وجهها براحتيها نائحة و هي تقول “يا حسرتي ، ضاع أبو العيال ”
*****
إلا أن أبو شفيق كان حيا يرزق ، و كذلك كان بطلا حقيقيا بكل أبعاد الكلمة ، فبعد أن شاهد زملاءه يصابون ، تولى زمام الموقف و بدأ بالإشراف على عملية الإنسحاب المنظم ، كانت معظم بوابات القلعة قد تهدمت فلم يبق سوى الباب الشمالي و منه إلى الخندق فالنهر ، و كان الخندق أعلى من النهر بحوالي ثلاثة أمتار بحيث كان النزول إلى النهر خطرا ، و هكذا انزلقت أقدام بعضهم فأصيب الكثيرون من الناجين من القذائف بالكسور ، و هنا أمر أبو شفيق باستخدام ذلك الممر السري القديم و منه إلى النهر مباشرة ، و بينما كان يشرف على آخر المنسحبين أصيب بشظية في ساقه .
*****
كان شفيق يشاهد مع ابن خاله آثار الدمار الذي لحق بالمجلس النيابي و يستمعان إلى قصص البطولة و الفداء التي سطرها عناصر الحامية من رجال الدرك . فقد طلب منهم الفرنسيون المرابطون في مبنى المستشارين المقابل ، تحية العلم الافرنسي ، فرفضوا ، فكان أن هوجموا و ذبحوا ذبح النعاج بعد قصف لمبنى المجلس بمختلف الأسلحة دام طيلة اليوم الثاني للعدوان .
و إذ هما كذلك علا صفير يشبه بوق سيارات المطافئ ثم ما أن ابتعد الناس عن الطريق الممتد من ساحة السبع بحرات حتى المقبرة العسكرية الإفرنسية في آخر شارع البرلمان ، ما أن إبتعدوا حتى بدأ سيل من العربات و المجنزرات بمختلف الأشكال و الأحجام ، امتطاها جنود و مرتزقة الجيش الفرنسي .
في البداية ظنهم الناس بريطانيون ، فصفقوا لهم و هللوا و لكن ما لبثوا أن اكتشفوا خطأهم فقد كان هؤلاء من مرتزقة الجيش الفرنسي ، أجبروا على الإنسحاب ، بإشراف الجيش البريطاني و بأمر من مجلس الأمن ، فتحولوا من الهتاف إلى الشتيمة ثم إلى إمطارهم بكل ماتطاله أيديهم . و هنا اضطر البريطانيون إلى إعلان منع التجول في المنطقة كي تتم عملية الإنسحاب بهدوء
*****
كان مبنى ثانوية التجهيز الأولى، المقام في جزء من بساتين النيربين على مرتفع يطل على معهد الحقوق و التكية السليمانية ، كان قد تحول إلى مستشفى بإدارة الهلال الأحمر الملكي المصري .
و في إحدى الغرف إستلقى أبو شفيق و إلى جواره زوجته و أولاده ، بينما كان الزوار الآخرون من زملاء و مسؤولين بين آت و ذاهب ، و قد امتلأت غرفته بباقات الزهور التي طغت رائحتها الفواحة على رائحة الأدوية و المطهرات ، و لفتت أنظار الجميع باقة كبيرة من فخامة رئيس الجمهورية .
——————
سوري مغترب