قصة

نزار ب. الزين*

بمناسبة مرور ستين سنة على النكبة

       كان الملازم عزت – و هو حامل جهاز اللاسلكي الوحيد الذي يملكه الفوج الستين من جيش الإنقاذ – كان يكتب رسالة إلى والدته ، متخذا من صندوق فارغ للمعلبات طاولة استند عليها ، و بعد أن غلفها و ألصق  حوافها ، كلف أحد الجنود بتسليمها لخيمة البريد ، ثم اشعل لفافة تبغ ، و سرح بعيدا في احتمالات المعركة الوشيكة .

كانت السرايا الثلاث المشكلة للفوج ، متمركزة فوق تل قريب من مستوطنة الزراعة ، التي بدت تحت بصيص النجوم في ليلة صافية الأديم ، بدت كبيرة و قد برز منها بضعة أبراج مراقبة .

و في الوقت ذاته كان العقيد سفيان يجمع قادة السرايا في مجلس حرب ، و على خارطة مرسومة باليد بغير إتقان ، أخذ يعلم خطوطا باللون الأحمر  ، تشير إلى النقاط الإستراتيجية التي يجب اختراقها ، موصيا بضرورة إخفاء الضجيج و منع التدخين .

*****

ديفد و هو جندي من ميليشيا الهاغانا ، كان مستندا على حافة مرقبه في البرج الشمالي ، عندما نقلت إليه نسمات خفيفة ، أصواتا مريبة ، ما لبثت أن أفصحت عن هدير محركات ، و بكشافه القوي  تمكن من تمييز أشباح تتحرك بحذر قادمة من التل المجاور ، فأمسك بمسرة الهاتف و اتصل  مباشرة بمركز القيادة  .

ما أن بلغت الرسالة قائد الدفاع عن المستوطنة إبراهام ، حتى هب واقفا و ابتدأ يصدر أوامره القاضية بإعلان الإنذار من الدرجة الأولى على كافة القطاعات الدفاعية ، على أن يتم الإعلان شفويا أي من فم إلى فم ؛ ثم أخذ يتفقد  مع معاونيه المراكز الدفاعية ، كما أشرف على توزيع أفراد الإحتياط المشكلة من فتيان المستوطنة و فتياتها  ، و لم ينسَ زيارة البرج الذي صدر منه  أول تحذير ، فشكر الجندي ديفد الذي تنبه للأمر على يقظته و أمر بترقيته ؛ ثم عاد إلى مقره يترقب الهجوم .

و على حين غرة تذكر أمرا فاستدعى ( الليوتونان عزرا ) على عجل ليسأله عن مدى تغلغل المياه في السهول المحيطة بالمستوطنة ، كواحدة من أهم وسائل الدفاع  المتعددة التي هيأها منذ أن أخبرته القيادة العليا عن احتمال مهاجمة المستوطنة من قبل قوات القاوقجي ، فأجابه عزرا أن المياه أغرقت أكثر سهول المنطقة المحيطة .

كان ابراهام عند تسلمه القيادة قد درس المنطقة جيدا و علم أن منطقة غور بيسان ، كانت مغطاة بالمستنقعات ، فاقام المستوطنون بمساعدة الإنكليز سدودا و قنوات لتنظيم الري و الصرف فيه خلال السنوات الماضية ، فقام ابراهام في جولة استطلاعية جعلته يستنتج إمكانية استخدام هذا التنظيم في عملية الدفاع عن المستوطنة ، و أثبتت التجربة الأولى نجاحا فاق كل تصور ، و عندما  وردته إشارة المخابرات ، منذ يومين ، باحتمال الهجوم على المستوطنة ، أمر بإغراق المنطقة المحيطة بها .

كان يلقي أوامره المتلاحقة بهدوء و ثقة عالية بالنفس ، كيف لا و معظم جنوده مدربون أحسن تدريب ، و بعضهم من رفاق السلاح الذين خاض معهم معارك طبرق إبان الحرب العالمية الثانية ، و تعقب معهم فلول رومل ضمن فرقة ال( الهابلماخ ) ، أما  مجندو الإحتياط  فقد تحملوا مشقة التدريبات و خاصة منهم الفتيات بصبر و ثبات .

*****

كان الملازم عزت في كامل ثيابه العسكرية يزرع أرض خيمته جيئة و ذهابا ، و هو في أشد حالات القلق ، فقد قدر له أن يستمع إلى بعض أحاديث قائد الفوج ، كما نقل بعض الرسائل اللاسلكية  ؛ و كلها تشير إلى ضعف تدريب مقاتلي الفوج ، و انخفاض مستوى تسليحهم و قلة ذخائرهم ، فالبنادق فرنسية من طراز عتيق يرجع بعضها إلى أيام الحرب العالمية الأولى ، و الرشاشات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة عدا ، و القوة الوحيدة الجيدة التي يملكها الفوج هي بطارية مدافع هاون ، و حوالي ثلاثين مغوارا سوف يكون لهم وزنهم بلا شك ، و هذا ما جعل القيادة العامة تعتقد أن هذا الفوج هو أقوى أفواج جيش الإنقاذ .

*****

خلال جولته لم يعثر ابراهام على زوجته ، و يبدو أنها كانت تودع طفليها لدى مسؤولة أحد الملاجئ ، فرفع مسرة الهاتف و طلب قائد الإحتياط  ، كانت كلير زوجته قد عادت لتوها إلى مقر قيادة الإحتياط ، فتسلمت رشيشها ( التومي ) ، ثم جلست على الأرض ، فأسندته إلى صدرها ، و راحت تقلب احتمالات المعركة ، التي ستكون معركتها الأولى ، و قد تكون الأخيرة ، و قد تفرقها عن زوجها الحبيب و عن طفليها الرائعين ، فمصيرهما و آلاف الأطفال اليهود ، لا يمكن التكهن به ، اشبه بمصير لاعب أكروبات يسير على حبل مشدود بين رأسي جبلين ، ثم أخذت تتساءل : ” كيف نبني جزيرة في بحر ؟ كيف ننشئ قلعة فوق رمال متحركة ؟ كيف نخلق حياة في محيط الموت ؟ و لكن أليست الكرة الأرضية كلها  ألعوبة الزلازل و الكوارث  و ثورات الطبيعة ؟  و مع ذلك لا زالت مستمرة منذ ملايين السنين  ، و مستوطناتنا ألم تُبنَ في وسط  معادٍ ؟ و مع ذلك فإنها مستمرة ، و طفلي أهارون و راشيل هاهما  يرسخان وجودهما رغم الموت المتربص بهما  من كل صوب ؛ أجل ، إرادة الحياة أقوى من الموت ، إرادة الحياة ستظل تقهر العدم “.

و قطع سلسلة تداعياتها منادٍ إلى الهاتف ، فهرعت إليه  ، كان المتكلم زوجها إبراهام ، فأخذا يتبادلان عبارات الهوى و كأنهما في شهر العسل ، ثم أنهت المكالمة بقبلة طبعتها على مسرة الهاتف ، ثم عادت إلى موضعها تعانق رشيشها .

*****

كان الفوج الستين من جيش الإنقاذ قد تحرك ليحكم الحصار حول المستوطنة ، و تصادف هطول أمطار لم تكن متوقعة ، إلا أن الجو كان دافئا ، مما جعل أمر المطر ثانويا  و لا يشكل أية إعاقة ، كما أن الروح المعنوية كانت عالية لدى الجميع .

في الرابعة و النصف فجرا ، تقدم المغاوير ـ كانوا متباعدين  ، بعضهم بأسلحتهم الخفيفة ، و بعضهم الآخر يحملون صناديق المتفجرات ، و آخرون يحملون صواعق التفجير ، بينما كان كشاف ( ديفد ) الكهربائي و المثبت أعلى البرج الشمالي الذي يتمركز فيه مع  ثلاثة من الحراس ، كان يمسح المنطقة  بحزمة نوره الساطعة ، التي ما لبثت أن وقعت على مجموعة من جنود الإنقاذ ، فصاح  بالجنود المتمركزين معه : ” نار .. نار .. إنهم يهاجمون “

فانهمر الرصاص على المغاوير من كل صوب ، إلا أنهم ظلوا  مندفعين غير هيابين ، و لما تساقط عدد منهم ، تحولوا إلى الزحف ، حتى بلغوا الأسلاك الشائكة ، ففتحوا ثغرة فيها ، ثم تسللوا منها  كالنموس .

و لكن ما أن اجتازوا الأسلاك حتى جابهتهم  الصعوبة الكبرى ، فالأرض طينية لزجة غمرتها المياه حتى ارتفاع بضعة سنتيمترات  ، كانت أرجلهم تغوص في الطين ، أحيانا حتى الركب ، فينتزعونها من الوحل انتزاعا لينقلونها إلى الخطوة التالية ، و لولا مساندة نيران رفاقهم  من الخلف ، التي شاغلت الأبراج و المدافعين على الأرض ، إضافة إلى المدافع الأربعة التي أخذت تدك حصون المستوطنة ، لما تمكنوا من التقدم خطوة واحدة .

و بعد بضعة دقائق خالاها دهرا ، تمكن اثنان من المغاوير من بلوغ برج المستوطنة الشمالي ، فزرع أحدهما موادا متفجرة تحت أحد أعمدة البرج و أشعل الآخر الفتيل ، ثم عادا أدراجهما مسرعين يتخبطان في الوحل ، و إذ دوى الإنفجار ، انبطحا معا فوق الطين ، و التفت أحدهما ليرى البرج  بمن فيه  و قد تحول إلى قطع خردة متطايرة و أشلاء مبعثرة .

إلا أن العملية كلفت مجموعة المغاوير حياة أكثرهم ، مما استفز قائد بطارية المدفعية  فأحكم تصويبه و أخذ يدك بيوت المستوطنة  بيتا بيتا ، و ما لبثت إحدى قذائفه أن أصابت محطة كهرباء المستوطنة ، ثم أصابت قذيفة ثانية خزان المياه  ، كما تحطمت أعمدة حمل أسلاك الكهرباء و الهاتف  ، ثم أصابت قذيفة أخرى مقر القيادة الذي نجا منه ابراهام بأعجوبة .

و عندما شعر العقيد سفيان قائد الفوج بضعف نار العدو ،  أمر بالهجوم فبدأت الصفوف الأولى تخوض في الوحل غير مبالية ، و أحسوا جميعا أنهم على وشك اجتياح المستوطنة .

*****

كان ابراهيم ليفي الذي لم يفقد رباطة جأشه ، قد توجه مع اثنين من الفنيين إلى مولد الكهرباء الإحتياطي ، أمرهما ابراهام ، بمد توصيلات  مباشرة بين المولد و شبكة توزيع المياه ، ثم أمر بتشغيل المولد  ..

كان جنود جيش الإنقاذ قد بلغوا مشارف  المستوطنة عندما بدأت الكهرباء تصعقهم  ، ثم أصبح من السهل تصفية من نجح منهم بالإنسحاب ، و على الأخص عندما أخذت طائرة استكشاف بريطانية ترشد المستوطنين إلى مكامن جنود جيش الإنقاذ  ، ثم بدأ الفوج يتلقى ضربات مدفعية من مصادر أخرى ، ما لبث قائد الفوج أن تأكد بمنظاره ، أنها لقوة بريطانية .

عندما أحس العقيد سفيان قائد الفوج بهول الكارثة ، أمر بالإنسحاب ، بعد أن كلف ثلة من الجنود الأشاوس بحماية المنسحبين ، ثم تناول مسرة الهاتف اللاسلكي من الملازم عزت بعصبية ، و بصوت ثائر أخذ يخاطب القيادة العامة قائلا : ” أنا لست مسؤولا ! استطلاع الموقع كان ناقصا ، لم يخبرنا أحد باحتمال تدخل الإنكليز ،  لم يخبرنا أحد عن دفاعات المستوطنة المائية ، تسليحنا كان ضعيفا و قد أخبرتكم بذلك مرارا ، هونتم علينا كل شيء ، أكثر من نصف رجالي راحوا بين قتيل و جريح ، لا سامحكم  الله  لا  في  الدنيا  و لا  في  الآخرة . “

ثم سحب مسدسه يريد الإنتحار ، لولا أن انتبه إليه الملازم عزت فمنعه في الوقت المناسب .

=========================
*نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب